فضائل العشر الأولى من ذي الحجة

عدنان بن عبد الله القطان

29 ذو القعدة 1442هـ – 9 يوليو 2021 م

—————————————————————————

 

الحمد لله أهل الثناء والحمد، نحمده ونشكره على نعمه، وذلك أحق ما قال العبد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله، اتقوا الله تعالى واعلموا، أن الإنسان في رحلة الحياة بما فيها من مصاعب وعقبات ومحن وابتلاءات، وبما فيها من تقصير في حق الله سبحانه وتعالى، من ذنوب ومعاص وهفوات، فنتج عن ذلك هموم وقلق واضطرابات، ومشاكل سلوكية واجتماعية، وخواء روحي، وفراغ نفسي، فإنه لابد للإنسان ليعالج هذه الإختلالات في حياته، والقصور الذي نتج عن سلوكه، والآثار التي ظهرت في حياته، من محطات تربوية، وواحات إيمانية، وأدوية روحية، فالجسد يحتاج إلى الطعام والشراب والدواء، والروح تحتاج إلى الإيمان والتقوى والعمل الصالح   وإن من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا أن جعل لنا مواسم للطاعات، ودعانا إلى الاستفادة منها واستثمارها في تزكية النفس وتربيتها، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً) وإن من الأيام العظيمة والمباركة والتي يتضاعف فيها الأجر والثواب، أيام العشر من ذي الحجة التي تحل بنا قريباً هذه الأيام، والتي لها ثمار يانعة، على الفرد والمجتمع والوطن والأمة، وقد ورد فضلها في الكتاب والسنة فقال تعالى: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة، وقال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أيام العشر وفيها العمل الصالح مهما كان، يتضاعف إلى أضعاف كثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذه، قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: ولا الجِهادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِه ومالِه، فلَمْ يَرْجِعْ بشَيءٍ) ومن أراد أن يستشعر فضل هذه الأيام ويتصور ذلك، فليتدبر ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم عن الجهاد وفضله، فقد صح في الحديث أن رجلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟ فقَالَ : (لا أَجِدُهُ)، ثم قَالَ له: (هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ؟) فقَالَ الرجل: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ ومع ما للجهاد من هذه المكانة، يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الطاعة في العشر أفضل منه. فعلى المسلم أن يغتنم هذه الأيام المباركة.. بالتقرب إلى الله بعد الفرائض بالنوافل كالصلاة والصيام وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتكبير والصلاة على الرسول، وكذلك نشر ثقافة الحب والتراحم والصدقة لما فيها من التقرب إلى الله تعالى وابتغاء الأجر والثواب منه سبحانه عن طريق البذل والعطاء والإحسان للآخرين قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)

ومن الأعمال الصالحة، بر الوالدين، وصلة الأرحام، وإصلاح ذات البين، والعفو والتسامح، وتقديم النفع للآخرين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وغيرها من الأعمال الصالحات، بالإضافة إلى قيام المسلم  بالاستكثار من الدعاء وذكر الله وتحميده وتهليله وتمجيده خلال هذه الأيام في بيته وخارج بيته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) وكان بعض الصحابة يخرجون إلى السوق في أيام العشر يكبرون، ويكبر الناسُ بتكبيرهم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وجَدُوا قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنادَوْا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وهو أعْلَمُ منهمْ- ما يَقولُ عِبادِي؟ فيَقولونَ: يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ، ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ،  فيَقولُ الله تعالى: هلْ رَأَوْنِي؟ فيَقولونَ: لا واللَّهِ ما رَأَوْكَ، فيَقولُ الله: وكيفَ لو رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لو رَأَوْكَ كانُوا أشَدَّ لكَ عِبادَةً، وأَشَدَّ لكَ تَمْجِيداً وتَحْمِيداً، وأَكْثَرَ لكَ تَسْبِيحاً، فيقولُ الله: فَما يَسْأَلُونِي؟ قالَوا: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ فيقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ فيقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها، فيقولُ الله: فَكيفَ لو أنَّهُمْ رَأَوْها؟ فيقولونَ: لو أنَّهُمْ رَأَوْها كانُوا أشَدَّ عليها حِرْصاً، وأَشَدَّ لها طَلَباً، وأَعْظَمَ فيها رَغْبَةً، قالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ فيقولونَ: مِنَ النَّارِ فيقولُ الله تعالى: وهلْ رَأَوْها؟ فيقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها، فيقولُ: فَكيفَ لو رَأَوْها؟ فيقولونَ: لو رَأَوْها كانُوا أشَدَّ مِنْها فِراراً، وأَشَدَّ لها مَخافَةً، فيَقولُ الله تعالى: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قدْ غَفَرْتُ لهمْ، فيقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فيهم فُلانٌ ليسَ منهمْ، إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ، فيقول الله جل وعلا: هُمُ  القوم أو الجُلَساءُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ).. أيها المؤمنون: لقد فسدت كثير من أخلاق المسلمين إلا من رحم الله، وساءت تصرفاتهم وضعفت أخوتهم، وتعددت المشاكل، وتجرأ بعضهم على البعض، وذلك لما قست القلوب، وضعف الإيمان بالله واليوم الآخر، فلم يجد الواحد منا لذة الطاعة والعبادة بسبب الذنوب والمعاصي، فكان لا بد لنا من وقفة مع النفس وتزكيتها بالتوبة والعمل الصالح، وخاصة في هذه الأيام العشر من ذي الحجة، والتي يعتبر قيام المسلم والمسلمة فيها بالعمل الصالح من أعظم الثمار، ذلك أن ثواب العمل الصالح وبركته وفضله وآثاره، ينالها الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، وهي سبب لسعادته وراحته، ففي الدنيا فإن العمل الصالح سبب مباشر في الحياة الطيبة، يقول سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، والعمل الصالح سبب في الأمن والتمكين في الأرض، يقول سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) وبالعمل الصالح تتنزل البركات، ويحل الأمن، وتتآلف القلوب، وتغفر الزلات، وترفع الدرجات، ويطيب العيش، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وكذلك فأن للعمل الصالح أثراً ودوراً كبيراً في تفريج الكربات، ودفع البلاء والفتن، ودفع الهموم، وشرح الصدور، وما أكثر همومنا وكرباتنا نحن المسلمين، فما من بلد إلا من رحم الله، إلا وتجد فيه حروباً وصراعات  ونزاعات وفقراً وأمراضاً ومشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، وكلها بسبب سوء الأعمال والجرأة على حدود الله وحرماته، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقال سبحانه ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)  فكان لا بد من العمل الصالح بكل صوره، واستغلال مواسم الطاعات التي تتضاعف فيها الحسنات، لعل الله أن يفرج كرباتنا ويدفع عنا البلاء، فمن ذلك أن علمنا الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام دعاء في لحظات الهم والحزن فقال: مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حَزَنٌ: (اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتُهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتُهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ غَمِّي  إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحاً،  قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ : أَجَلْ ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ) وقال سبحانه مبيناً أثر العمل الصالح في هدوء النفس وطمأنينة القلب: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: إن القلب الخاشع، واللسان الذاكر، والجوارح القائمة في طاعة الله، كفيلة بإخراج صاحبها من الكربات التي تصيبه في الحياة الدنيا، قال جل ذكره: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ثم يقول جل وعلا في آية أخرى : (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له) ويقول سبحانه ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)

والمظلوم بعمله الصالح وبإخلاصه لربه وتضرعه ودعائه يفرج الله كربته ويرفع عنه الظلم ويقتص من ظالمه،  قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ، دَعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ) وقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً

                                  فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ

تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ

                                    يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر قام إلى الصلاة وقال أرحنا بها با بلال وهي من أعظم الأعمال الصالحة… وصنائع المعروف وصدقة السر تدفع عن الإنسان كل شر وهلاك بإذن الله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم (صَنائِعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، والصَّدقةُ خُفياً تُطفِئُ غضَبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرَّحِمِ زيادةٌ في العُمُرِ..) وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ) ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .. بل إن هم الأولاد ومستقبلهم وحفظهم مرتبط بأعمال الوالدين الصالحة قال الله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فحفظ الله للغلامين كنزهما الذي هو من متاع الدنيا الزائل لصلاح أبيهما..  وهكذا يثمر العمل الصالح وتظهر بركته وثمرته.

 اللهم وفقنا جميعاً إلى عمل الصالحات، وجنبنا المعاصي والمحرمات، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة وعند الممات، برحمتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن أيام العشر من ذي الحجة التي نستقبلها بعد يوم أو يومين، أيام العمل والجد والمسارعة، وهي أيام الفوز والسعادة والفلاح، فحافظوا عليها رحمكم الله واعمروها بطاعة الله تعالى.. واعلموا أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصَّدقة لمَنْ حال عليه الحَوْل فيها، وفيها الصوم لمَنْ أراد التطوع أو لم يجد الهَدْي، وفيها الحجُّ إلى بيت الله الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذِّكْر والتَّلْبية والدعاء الذي تدلُّ على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها فيه غيرها، ولا يساويها سواها.

عباد الله: ومن الأعمال الصالحة التي يتقرب بها المسلم إلى ربه، ذبح الأضاحي، وهو سنة مؤكدة، على كل قادر عليها من المسلمين، وذبح الأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة، ومن العبادات المشروعة في كل الملل؛ يقول سبحانه: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) والله جلَّ وعلا قد حثَّنا على ذلك، فقال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وكان نبيُّكم صلَّى الله عليه وسلَّم كثيرَ الصلاة، كثيرَ النَّحْر، وقد حثَّ على الأضاحي ورغَّب فيها بقوله وفعله؛ فمن قوله: ما ثبت عنه أنَّه قال: (مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلاً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْساً). وقال لمَّا سُئل: ما هذه الأضاحي؟ قال: (سنَّةُ أبيكم إبراهيم). قالوا: ما لنا منها؟ قال: (بكلِّ شعرةٍ حسنة). قالوا: الصوف؟ قال:(وبكلِّ شعرةٍ من الصوف حسَنة) ونبيُّكم صلى الله عليه وسلم حافَظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة، فما أخَلَّ بها سنَةً من السنين كلَّ مدةِ بقائِه في المدينة، منذ هاجَر إلى أن توُفِّيَ، وكان يُعلِن هذه السنَّة ويظهرها للملأ.

وينبغي لكل قادر من المسلمين أن يضحِّي عن نفسه وعن أهل بيته، أحيائهم وأمواتهم، فإنَّ نبيَّنا كان يضحِّي بكبشَيْن؛ أحدُ الكبشين عن محمَّد وآل محمَّد، والثاني عمَّن لم يضَحِّ من أمَّة محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه). فضحِّ يا عبد الله عن نفسك، وضحِّ عن أهل بيتك، قليلٍ وكثير. وسنَّة محمَّدٍ دلَّت على أنَّ الشاةَ الواحدة تغني الرجلَ وأهلَ بيته؛ قال أبو أيوب الأنصاري رضيَ الله عنه لمَّا سُئل عن الأضاحي في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (كان الرَّجل منَّا يضحِّي بشاةٍ واحدةٍ عنه وعن أهل بيته، حتى تباهى الناس فكانوا كما ترى). بمعنى: أنَّ الرجلَ إذا ذبح أضحيةً واحدةً عنه وعن أهل بيته، الأحياء منهم والأموات، وأشركهم جميعاً في ثوابها؛ نالهم ذلك الثوابُ بفضل الله، فليس الهدف التعدُّد، إنّما الهدفُ التقرُّب إلى الله تعالى. ويجوز أن يشترك في الأضحية سبعة أشخاص في واحدة من البقر أو الإبل . وقد جعل نبيَّنا للأضاحي وقتَ ابتداء، فابتداءُ ذبحها من بعد نهاية صلاة عيد النَّحر، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:مَنْ صلَّى صلاتَنا ونسك نسكنا؛ فقد أصاب السنَّة، ومَنْ ذبَح قبل الصلاة؛ فليُعِد مكانها أخرى) وجعل وقت انتهاء للذبح إلى غروب شمس آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.

 نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم أدخلنا الجنة مع السابقين المقربين وارزقنا الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين.اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزراءه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم ادفع وارفع عنا الوباء والغلاء والربا والزنا والزلازل والمحن والفتن، وسيء الأسقام والأمراض ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين وبلاد العالم أجمعين يا ذا الجلال والإكرام. اللهم كن للمستضعفين والمظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً. اللهم أحفظ أهلنا في فلسطين وأحفظ مقدسات المسلمين، والمسجد الأقصى، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

          خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين